بعد كورونا: الرأسمالية تعاني والاشتراكية مستحيلة والبديل قيد البحث
حقبة ما بعد الوباء تسودها المشكلات الاجتماعية والحروب التجارية والعداوات السياسية، وعلى قادة العالم استخدام حالة الطوارئ لبناء اقتصاد أكثر استدامة
كشفت أزمة وباء كورونا عن المزيد من العيوب في الهياكل الاقتصادية، في وقت يواجه العالم ثلاث أزمات كبرى على الأقل، يتصدرها تفشّي فيروس كورونا الذي خلف أكثر من مليونَيْ إصابة وتسبّب في ١٢٩٠٠٠ وفاة حتى الآن، فيما أشعل الوباء أزمة اقتصادية جديدة هي الأسوأ منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي ولا تزال نتائجها على الاستقرار المالي غير معروفة حتى الآن، وكل هذا يحدث على خلفية أزمة مناخية أخفق قادة العالم في معالجتها إلى يومنا هذا.
نفتح اليوم ملف “ماذا بعد أن ينتهي العالم من معركته مع وباء كورونا”، ونتساءل إن كان بإمكانه استخدام حالة الطوارئ الحالية لبدء بناء اقتصاد أكثر شمولاً واستدامة. ليس الهدف تأخير أو عرقلة الدعم الحكومي، بل تنظيمه بشكل صحيح. ونتساءل إن كان العالم قادراً على تجنّب الأخطاء التي أعقبت عام ٢٠٠٨ عام الأزمة المالية، عندما سمحت عمليات الإنقاذ للشركات بجني أرباح أعلى بمجرد انتهائها لكنها فشلت في وضع الأساس لانتعاش قوي وشامل.
كما نتساءل إن كانت أزمة وباء كورونا قد كشفت عن بعض عيوب المجتمع الرأسمالي، وإن كنّا سنشهد ولادة نظام اقتصادي جديد أكثر انضباطاً… وما هوية النظام الجديد المرتقب ليبرالي أو شيوعي أو اشتراكي أو رأسمالي بضوابط… سؤال وجهناه إلى عدد من المعنيين.
شبكات الأمان الاجتماعي والأنظمة الضريبية خيبت آمال الشعوب في توقيت أزمة كورونا
الرأسمالية في أزمة
تقول إلينا سوبونينا، مستشارة في المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية في تصريحات لـ”اندبندنت عربية”، عبر الهاتف من روسيا، أن النظام الليبرالي السائد في الغرب بمفاهيمه القائمة اليوم في طريقه إلى الانقراض والتلاشي، إذ إنّ الحريات المفرطة أوجدت مشكلات عدّة في الغرب. وأضافت أن فيروس كورونا أظهر عدداً كبيراً من الأخطاء في النظام الليبرالي، داعيةً إلى ضرورة عودة العالم إلى القيم الإنسانية والدينية والتقليدية.
في الوقت ذاته، استبعدت سوبونينا تماماً، عودة النظام الاشتراكي أو الشيوعي بعد القضاء على وباء كورونا، معتبرةً أن النظام الرأسمالي سيبقى هو المسيطر ولكن بضوابط أكبر. ونصحت الشعوب بمراجعة الرأسمالية من منطلق العدالة الاجتماعية.
وتوقعت أن يمر العالم بمراحل عدّة في معرض محاربته مرض كوفيد ١٩، فهي ترى أنه مع تفشّي الوباء ووصول أرقام المصابين والوفيات إلى ذروتها، ستبدأ تلك الأرقام بالتراجع. ومع انتهاء هذه الأزمة، سيدخل العالم في مرحلة من الاضطرابات والفوضى.
وأعربت مستشارة المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية، عن خشيتها من الوصول إلى حقبة من الفوضى الاجتماعية والركود الاقتصادي من شأنها أن تضع العالم مجدداً في بؤرة من الصراعات السياسية مع توسّع الفجوة القائمة بين الأغنياء والفقراء. ورجّحت أن يعيش العالم حالة من الفوضى، تستمر ما بين عام إلى ثلاثة أعوام، فيما لم تستبعد نشوب عددٍ كبيرٍ من المشكلات الاجتماعية والحروب التجارية والعداوات السياسية، مما يمهّد الطريق لمزيد من الأزمات الجديدة في العالم.
وبعد الانتهاء من مكافحة كورونا، توقعت سوبونينا حدوث تدهور في العلاقات الأميركية الصينية، محذّرةً من أن العالم مقبل على مرحلة خطيرة للغاية، ستبقى قائمة لسنوات بعد الفيروس التاجي، على أن تعقبها مرحلة يصبح العالم قادراً خلالها على التفكير في ماهية النظام العالمي الجديد. وشدّدت على ضرورة إحياء شعار “العدالة الاجتماعية” الذي اعتبرت أنّه توجه لا بد منه، داعيةً أصحاب رؤوس الأموال إلى التفكير في المجتمعات الفقيرة ومحذّرة من توسّع الهوة بين طبقة الأثرياء والفقراء في العالم، وإلّا سيزداد الوضع سوءاً.
دور أكبر للمجتمعات المدنية
عن هوية النظام الاقتصادي العالمي ما بعد حقبة كورونا، قال الدكتور جهاد نادر، البروفيسور في الاقتصاد المالي ورئيس جامعة البلمند في دبي، في تصريحات لـ”اندبندت عربية”، “أنا أتردّد في إعطاء أي توصيف للنظام الاقتصادي العالمي الجديد بعد كوفيد ١٩، إن كان سيكون اشتراكياً أو ليبرالياً أو رأسمالياً بضوابط أكبر. برأيي أنّ هذه المسميات انتهى وقتها، وبرأيي عندما يعبر العالم المرحلة الصعبة التي يعيشها بسبب تفشّي هذا الوباء، سيكون للمجتمعات المدنية دور كبير في صياغة الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية وتشكيلها”.
وأضاف: “فكرة الاشتراكية قائمة على توزيع الثروات والمساواة بين البشر وتوحيد الدخل بين فئات المجتمع باختلافها، والنظام الاشتراكي أثبت فشله، لأنه حتى في دول أوروبية مثل إيطاليا وإسبانيا وألمانيا، على الرغم من وصفها بأنها رأسمالية، لكن نُظمها لا تزال اشتراكية، والبرامج الاجتماعية بشكل عام مبنية على النظام الاشتراكي وهي أثبتت فشلها في توقيت أزمة فيروس كورونا”.
وتابع: “لقد أُصيب الأفراد والشعوب بخيبة الأمل لأنهم اكتشفوا أنهم لا يتمتّعون بالحماية في توقيت أزمة مثل وباء كورونا، فعلى سبيل المثال، فقدان الوظائف أو حتى إذا أُصيب الفرد بالمرض، يُقال له نحن لا نستطيع الاهتمام بك لأن طاقة النظام الصحي استُهلكت، حتى إنّ الأنظمة الصحية لم تعد تميّز بين فرد في الـ ٧٠ من عمره وآخر في سن الـ ٣٠، مَن سيموت ومّن سينجو، بالتالي فكرة شبكات الأمان التي من المفترض أن تكون قائمة، أثبتت مع تفشّي كورونا أنها ناقصة جداً أو غير موجودة”.
وأردف البروفيسور نادر: “في تصوري أن المجتمعات ستتحوّل بشكل كبير إلى الاعتماد على النفس، بمعنى لن تعود هناك ثقة بالمؤسسات الكبرى أو الشركات أو مؤسسات الرعاية الطبية والتأمينات، بالتالي جميع هذه المفاهيم عفى عنها الزمن وتعرّت بعد أزمة وباء كورونا. العبرة من مرض كوفيد ١٩ هي أنه بات على الفرد تحمّل مسؤولية نفسه بنفسه وإدارة شؤونه بالطريقة التي يراها مناسبة مثل العمل والادّخار للمستقبل، أي على الفرد أن يعمل وأن لا يعتمد على وعود الحكومات والمؤسسات”.
حالة من الفوضى ستعم العالم ما بعد كورونا وتستمر ما بين عام إلى ثلاثة أعوام
تفكيك مرتقب للتكتلات العالمية
وعن فرص ولادة نظام اقتصادي أكثر انضباطاً، استبعد الدكتور جهاد نادر هذه الفرضية، قائلاً إنّ العالم يشهد اليوم تفكيكاً للمنظومات والتكتلات القائمة والمشكوك في أمرها.
وأضاف: “علينا أن ننظر إلى الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو على سبيل المثال. واليوم الدول الأكثر تأثراً بفيروس كورونا من حيث أعداد الوفيات والمصابين بالفيروس، دول مثل إيطاليا وإسبانيا وهذه الدول ثائرة وتشهد تململاً من كل ما هو أوروبي بعدما واجهت الفيروس وحيدة. وموجة الغضب تلك لن تنتهي بانتهاء كورونا، مع التذكير بأنّ جميع التكتلات التي ظهرت في العالم منذ عام ١٩٧٠ حتى اليوم، قامت في وقت كان هناك توجه إلى إيجاد تكتلات كبيرة وربما أكبر نموذج لها هو الاتحاد الأوروبي الذي كان يُعرف قبل ذلك بالمجتمع الاقتصادي الأوروبي، حتى إنّ نظاماً نقدياً موحّداً أُنشئ وهو ما تمثله منطقة اليورو اليوم. وهناك دول دفعت ثمناً باهظاً للدخول إلى هذه المنظومة باعتبارها دولاً فقيرة لا تملك مقومات صناعية وموارد طبيعية، وهناك دول غنية منتجة مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا كان لها الكلمة العليا في تلك المنظومة وكانت تتدخّل لتمويل اليونان وآيسلندا وتضع شروطاً لهذا التمويل، تؤثر في الفرد العادي وفي مدّخراته وفي سن التقاعد حتى إنّه في ذلك الوقت في ٢٠٠٨، عندما اندلعت الأزمة المالية العالمية وإلى اليوم، هناك مصارف تقتطع من مدّخرات الأفراد. وفي قبرص، صودر جزء من أموال المودعين بعد سنوات طويلة من العمل الشاق والادّخار ليصدر قانون حكومي يستقطع من مدخرات هذا الفرد. بالتالي جميع الأمثلة التي سردتُها، تجعلني أعتقد بثقة أن المستقبل سيكون مبنياً على الأفراد وليس على المنظمومات الحكومية وشبكات الأمان الاجتماعي ونظام الضرائب، إذ يُقتطع من راتب الفرد مقابل تقديم الخدمات في وقت لا يحصل هذا الأخير على خدمات تتناسب مع هذا الاستقطاع”.
التجارة العالمية تقف عند الصين
عام ٢٠١٩، تفوّقت الصين على روسيا السوفياتية باعتبارها الدولة الشيوعية الأكثر ثباتاً في التاريخ. يمكن أن يُعزى طول عمر العقود السبعة للحزب الشيوعي الصيني إلى حد كبير إلى التخلّي عن أجزاء واسعة من الماركسية اللينينية. فبدلاً من التخطيط المركزي والأهداف من الأعلى إلى الأسفل، احتضنت الصين الأسواق وأعطت قوة كبيرة لمناطقها ومدنها. وشُجّع رؤساء الأحزاب المحلية على اتّخاذ قرارات جريئة لتعزيز الاقتصاد المحلي، مثل إنشاء وسائل إنتاج مدعومة بشكل كبير.
في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تفشّى فيروس كورونا في مدينة ووهان الصينية، لينتشر منها إلى عدد من المدن في البلاد ويتسبّب في وفاة أكثر من ثلاثة آلاف شخص و82 ألف إصابة في الصين وحدها. ومنها يتّجه ليغزو دول العالم، ما دعا منظمة الصحة العالمية إلى إعلان كورونا “حالة طوارئ صحية عالمية” وتسميته بـ”الجائحة”. الخوف من الوباء لا يقتصر على الصحة فقط، إذ تتوقف التجارة العالمية الآن على اقتصاد الصين البالغ 14.55 ترليون دولار، إذا ما علمنا أن التجارة تمثل حوالى 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
لقد عطست الصين وأُصيب العالم بالزكام وشُلَّ الاقتصاد العالمي بقطاعاته الحيوية، وبحسب توقعات صندوق النقد الدولي، من المرجح أن يتعرض الاقتصاد العالمي لأسوأ موجة ركود له منذ سنوات “الكساد الكبير”، وأن ينكمش النمو العالمي بشدة لأكثر من 3 في المئة العام الحالي، وهو أسوأ بكثير من تداعيات الأزمة المالية في 2007 و2008.
قبل أكثر من 10 سنوات بقليل، عندما كان العالم يدخل إلى الركود العظيم، كان على أصحاب المصلحة أن ينظروا إلى الوراء بعيداً في مرآة الرؤية الخلفية إلى “الكساد الكبير” للحصول على إرشادات السياسة، في حين أن إجراءات الثلاثينيات قدّمت بالفعل دروساً مهمة لعام 2008 – وأبرزها الحاجة إلى توسيع المعروض النقدي (كان اقتصاد الثلاثينيات مختلفاً بشكل أساسي عن الاقتصاد العالمي في أوائل هذا القرن).
بين عامي 1932 و2008، نما مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بمقدار عشرة أضعاف تقريباً، وانتقلت سوق العمل العالمية من سوق متجذرة إلى حدّ كبير في الزراعة إلى سوق قائمة على أساس راسخ في القطاعات الصناعية والرقمية، وأصبح نظام التجارة العالمي أساس الاقتصادات الوطنية. بالمقارنة مع ثلاثينيات القرن الماضي، كان أصحاب المصلحة عام 2008 يعملون في عالم مترابط بنظام مالي عالمي.
إذا كانت هناك بطانة فضية في الجزء الاقتصادي من الأزمة التي نشهدها تتكشّف اليوم، فهذا يعني أن الجدول الزمني المضغوط نسبياً بين عام 2008 واليوم، يشير إلى أن هناك صلة كبيرة بإحدى أكثر المقاربات تبعية التي استخدمها صانعو السياسة في ذلك الوقت. على وجه الخصوص، درس عام 2008 هو أن الاقتصاد المعولم يتطلّب حلّاً عالمياً.
الأنظمة الاشتراكية المركزية
بالنسبة إلى هذا الموضوع، قال الدكتور ناصر السعيدي، المتخصص في الشؤون الاقتصادية الدولية ووزير الاقتصاد والتجارة اللبناني الأسبق: “أبرز ما عنونته أزمة كورونا هو التركيز الكبير على الصحة العامة، فقد كشف الوباء عن وجود فجوة كبيرة في إمكانيات دول العالم في مواجهته، وهي نقطة مهمة جداً ستؤثر برأيي كثيراً في التوجهات المستقبلية. ثانياً، لاحظنا أن آسيا بشكل عام والصين بشكل خاص قد تعاملت مع كورونا بشكل مختلف وبنجاح أكبر مقارنة بالولايات المتحدة الأميركية، بالتالي أزمة كوفيد-19 ستؤثر في النظرة المستقبلية وكيفية التعامل مع الأزمات العالمية وليس فقط الأزمات الصحية ولكن أيضاً أزمات أخرى مثل القرصنة والجرائم الإلكترونية على أنواعها”.
واعتبر أن “النقطة الأهم التي ينبغي التركيز عليها تكمن في المركزية في التعامل مع الأزمات، فالصين على سبيل المثال، عالجت أزمة فيروس كورونا بإدارة مركزية وكذلك الحال في ألمانيا وكوريا الجنوبية، وهي طريقة أثبتت نجاحها في مكافحته. بالتالي برأيي أنه سيكون هناك دور أهم للحكومات في التصدّي لأي أزمات مستقبلاً، كما سيكون هناك تركيز أكبر على موضوع الصحة، والاقتصاد الرقمي بكل استعمالاته سواء في سوق العمل أو التعليم وغيرها من المجالات. وسيحظى الاقتصاد الرقمي في العالم بأهمية أكبر في المرحلة المقبلة، لأنه سيكون بمثابة حماية ووسيلة في الوقت ذاته لمواجهة الأوبئة على أنواعها.
ولا يتفق الدكتور السعيدي مع الآراء القائلة إنّ شبكات الأمان الاجتماعي والأنظمة الضريبية خيّبت آمال الشعوب في توقيت أزمة كورونا، بل على العكس توقّع “توسّعاً أكبر لها، وصولاً إلى ما يُعرف بالدخل الأساسي الشامل ((Universal basic income، أي أن يكون هناك حد أدنى للمعاشات والمداخيل، ولنأخذ على سبيل المثال البلدان العربية والأجنبية، فوجدنا أنه في البلدان الأجنبية، قُدمت تعويضات للبطالة في توقيت أزمة كورونا، وهذا أمر غير موجود في معظم البلدان العربية. هناك أيضاً غياب لشبكات الأمان في العالم العربي، بالتالي على العكس تماماً، أتوقّع حدوث توسع في شبكات الأمان تلك وأن نتجه بسرعة إلى “الدخل الأساسي الشامل”، بوجود عددٍ كبيرٍ من المخاطر القائمة على رأسها التطور التكنولوجي والأتمتة والروبوتات التي أصبحت اليوم تقتحم كل مجالات العمل والتي من شأنها أن ترفع معدلات البطالة في العالم، بالتالي تضفي مزيد من التعقيد على الأزمات التي تنتج البطالة، كما رأينا في تداعيات تفشّي فيروس كورونا على أسواق العمل”.
ورأى الدكتور السعيدي أن التقدم التكنولوجي قد يرفع معدلات البطالة بين الشباب غير المتعلم الذي يفتقر إلى المهارات، لهذا السبب يعتقد بأن العالم سيتجه نحو “الدخل الأساسي الشامل”، وهذا يتطلّب أن تلعب دول وحكومات دوراً أهم وأكبر من السابق. وأضاف: “شخصياً لا أتوقع حدوث انقلاب في الاقتصاد الرأسمالي، وفي تصوّري أيضاً بأننا لن نتجه إلى الاشتراكية ولكن سنكون أقرب إلى الأنظمة الاشتراكية المركزية عمّا كنّا عليه في الماضي”.
جائحة كورونا ستسلّط الضوء على الأنظمة المجتمعية والاقتصادية في جميع أنحاء العالم (غيتي)
تآكل مؤسسات القطاع العام
أعربت الخبيرة الاقتصادية ماريانا مازاتوكاتو، في مقال لـ”المنتدى الاقتصادي العالمي”، عن اعتقادها بأن “جائحة كورونا ستسلّط الضوء على الأنظمة المجتمعية والاقتصادية في جميع أنحاء العالم، قائلةً إنه من المحتمل أيضاً تغيير الطريقة التي ننظر فيها إلى العمل، بخاصة في ما يتعلّق بالاقتصاد العام وحقوق العمال، فالعمل عن بعد ليس خياراً متاحاً لمعظم العمال، وعلى الرغم من أن الحكومات تقدم بعض المساعدة إلى العاملين بعقود منتظمة، فإن العاملين لحسابهم الخاص قد يجدون أنفسهم متروكين وجافين من السيولة”.
وأضافت أن “الأسوأ من ذلك، أن الحكومات تقدم الآن قروضاً إلى الشركات في وقت كانت الديون الخاصة مرتفعة بالفعل تاريخياً. في الولايات المتحدة، بلغ إجمالي ديون الأسر قبل الأزمة الحالية 14.15 ترليون دولار، وهو أعلى بنسبة 1.5 ترليون دولار ممّا كان عليه عام 2008 (بالقيمة الاسمية). ولكي لا ننسى، كان الدين الخاص المرتفع هو الذي تسبّب في الأزمة المالية العالمية”.
وترى مازاتوكاتو أن أزمة وباء كورونا قد كشفت عن مشاكل عدّة تتعلّق بكيفية قيامنا بالرأسمالية، التي يجب حلّها جميعاً في الوقت ذاته الذي نتعامل مع الطوارئ الصحية الفورية. خلاف ذلك، سنحلّ ببساطة المشكلات في مكان واحد أثناء إنشاء مشكلات جديدة في مكان آخر. هذا ما حدث بالنسبة إلى الأزمة المالية عام 2008، عندما غمر صناع السياسات العالم بالسيولة من دون توجيهه نحو فرص استثمارية جيدة. ونتيجة لذلك، انتهى المال مرة أخرى في قطاع مالي كان “ولا يزال” غير صالح للغرض.
لسوء الحظ، على مدى العقد الماضي، اتّبع عددٌ كبيرٌ من البلدان التقشف، كما لو كان الدين العام هو المشكلة. وكانت النتيجة تآكل مؤسسات القطاع العام التي نحتاج إليها للتغلب على الأزمات مثل جائحة فيروس كورونا. منذ عام 2015، خفّضت المملكة المتحدة ميزانيات الصحة العامة بمقدار مليار جنيه إسترليني (1.2 مليار دولار)، ممّا زاد من العبء على الأطباء في التدريب (غادر كثيرون منهم الخدمة الصحية الوطنية تماماً)، وخفض الاستثمارات طويلة الأجل اللازمة للتأكد من أن المرضى يُعالجون في مرافق آمنة وحديثة ومجهزة بالكامل. وفي الولايات المتحدة – التي لم يكن لديها نظام صحة عامة مموّلاً بشكل صحيح – تحاول إدارة ترمب، باستمرار قطع التمويل والقدرات لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، من بين المؤسسات الحيوية الأخرى.
عمليات الإنقاذ والاحتفاظ بالعمال
إضافةً إلى هذه الجروح الذاتية، كان قطاع الأعمال “الذي تم تمويله” بشكل مفرط، ينتزع القيمة من الاقتصاد من خلال مكافأة المساهمين بخطط إعادة شراء الأسهم، بدلاً من دعم النمو على المدى الطويل من خلال الاستثمار في البحث والتطوير والأجور وتدريب العمال. ونتيجة لذلك، تم استنفاد الأسر من الوسائد المالية، مما جعل شراء السلع الأساسية مثل الإسكان والتعليم أكثر صعوبة.
على سبيل المثال، يمكن وضع شروط لدعم الحكومة للشركات. يجب مطالبة الشركات التي تتلقّى عمليات الإنقاذ بالاحتفاظ بالعمال، والتأكد من أنه بمجرد انتهاء الأزمة، فإنها ستستثمر في تدريبهم وتحسين ظروف العمل. والأفضل من ذلك، كما هي الحال في الدنمارك، يجب على الحكومة دعم الشركات لمواصلة دفع الأجور حتى عندما لا يعمل العمال في الوقت ذاته مساعدة الأسر على الاحتفاظ بمداخيلها ومنع الفيروس من الانتشار وتسهيل استئناف الأعمال التجارية للشركات.
كما يجب أن تكون عمليات الإنقاذ مصمّمة لتوجيه الشركات الكبيرة إلى مكافأة إيجاد القيمة بدلاً من استخراج القيمة، ومنع إعادة شراء الأسهم وتشجيع الاستثمار في النمو المستدام وتخفيض بصمة الكربون. بعد أن أعلنت العام الماضي أنها ستتبنى نموذج قيمة لأصحاب المصلحة، فإنّ هذه هي فرصة المائدة المستديرة التجارية لدعم كلماتها بالأفعال. إذا كانت الشركات الأميركية ما زالت تجرّ أقدامها الآن، فيجب أن نسميها خادعة.
عندما يتعلّق الأمر بالأسر، يجب على الحكومات أن تنظر في ما وراء القروض إلى إمكانية تخفيف الديون، لا سيما بالنسبة إلى المستويات العالية الحالية للديون الخاصة. كحدّ أدنى، يجب تجميد مدفوعات الدائنين حتى يتم حلّ الأزمة الاقتصادية المباشرة واستخدام الحقن النقدية الفورية للأسر التي هي في أشد الحاجة إليها.
ويجب على الولايات المتحدة أن تقدم ضمانات حكومية لدفع 80-100 في المئة من فواتير أجور الشركات المتعثرة، كما فعلت المملكة المتحدة وعدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي وآسيا.
إحياء الشراكة بين القطاعين العام والخاص
وقالت الخبيرة الاقتصادية ماريانا مازاتوكاتو، إن الوقت قد حان لإعادة التفكير في الشراكات بين القطاعين العام والخاص. في كثير من الأحيان، تكون هذه الترتيبات أقل تكافلية. ورأت أنه بالإمكان أن تصبح الجهود المبذولة لتطوير لقاح كوفيد-19، علاقة أخرى أحادية الاتجاه، فتجني الشركات أرباحاً ضخمة من خلال بيعها مرة أخرى للجمهور منتجاً وُلد من الأبحاث المموّلة من دافعي الضرائب. وأضافت في الواقع، على الرغم من الاستثمار العام الكبير لدافعي الضرائب الأميركيين في تطوير اللقاحات، اعترف وزير الصحة والخدمات الإنسانية الأميركي أليكس عازار، أخيراً بأنّ علاجات أو لقاحات فيروس كورونا المطورة حديثاً قد لا تكون في متناول جميع مواطنيه.
نحن بحاجة ماسة إلى دول ريادية تستثمر أكثر في الابتكار من الذكاء الصناعي إلى الصحة العامة إلى مصادر الطاقة المتجددة. ولكن كما تذكّرنا هذه الأزمة، نحتاج أيضاً إلى دول تعرف كيف تتفاوض، حتى تعود فوائد الاستثمار العام إلى الجمهور.
لقد كشف الفيروس القاتل عن مواطِن ضعف كبيرة داخل الاقتصادات الرأسمالية الغربية. الآن بعدما أصبحت الحكومات في حالة حرب، لدينا فرصة لإصلاح النظام. إذا لم نفعل ذلك، فلن تكون لدينا فرصة ضد الأزمة الكبرى الثالثة – كوكب غير قابل للسكن بشكل متزايد – وجميع الأزمات الصغيرة التي ستصاحبها في السنوات والعقود المقبلة.
رابط المقال
نقلا عن الاندبندنت عربية