الأثر الفرنسي في تقنين الفقه الإسلامي الحديث والمعاصر
عبارتان متشابهتان يجب الوقوف عندهما، واستخلاص العبر منهما:
الأولى: “إنّ عمل نابليون في تقنين القوانين الفرنسية جعله مخلَّدًا أكثر من فتوحاته”.
والثانية: “كانت مجلة الأحكام العدلية أعظم أعمال الدولة العثمانية منذ نشأتها”.
لقد عهد نابليون إلى أربعة من رجال القانون بمهمة تقنين القوانين وضبطها، فصدر على التوالي ما بين سنتي ١٨٠٤ ١٨١٠ القانون المدني، فقانون المرافعات، فالقانون التجاري، والقانون البحري، ثم قانون تحقيق الجنايات، ثم قانون الجنايات. وبهذا عرفت أوروبا أول تقنين أوروبي معاصر مصوغٍ صياغة محكمة منظّمة ومستوعبة وشاملة، تقنين تجلّت فيه مقولات الثورة الفرنسية وروحها وآفاقها التي ترنو إليها وتتشوق إليها.
كان أثر هذا التقنين على الدولة العثمانية والافتتان به هو الأقوى والأسرع من بين جميع الدول الأوروبية، فأطلق الحركة المعروفة باسم (التنظيمات) التي بدأت سنة ١٨٣٩ بقراءة بيان (خط الكلخانة الشريف) بصياغة مصطفى رشيد آغا وبلسانه أمام أعيان السلطة وبحضور السلطان عبد المجيد الأول، وانتهت سنة ١٨٧٦ بصدور (مجلة الأحكام العدلية) التي رعاها وأشرف عليها أحمد جودت باشا.
تمركزت أعمال (التنظيمات) حول نقل النظم الإدارية والقانونية والتعليمية من أوروبا، وتجلى فيها أولى ثمرات التغريب التي ظلت تنمو بلا توقف منذ تلك اللحظة، وقامت على أكتاف منظّرين وإداريين وعسكريين عثمانيين يجيدون اللغات الأوربية عمومًا، والفرنسية على وجه الخصوص، ويأتي على رأسهم مصطفى رشيد باشا (١٨٠٠ ــ ١٨٥٨)، ومحمد فؤاد باشا (١٨١٤ ــ ١٨٦٩)، ومحمد أمين عالي باشا (١٨١٥ ــ ١٨٧١)، وأخيرًا أحمد جودت باشا (١٨٢٢ ــ ١٨٩٥) الوحيد الذي لم يتقن الفرنسية.
لم يكن هؤلاء الرجال رغم نزعتهم الإصلاحية من مشرب واحد، فمنهم من كان يريد أن تُستلهم التجربة الفرنسية استلهامًا حرفيًا، ومنهم من أراد أن تُستلهم على سبيل الاستفادة والاستئناس، ولذلك صدرت القوانين في تلك المرحلة مرةً على رأي الطائفة الأولى، فاقتبست من التقنين الفرنسي بشكل كامل، وظهرت على التوالي فيما بين سنتي ١٨٥٠ و١٨٦٣ القوانين الآتية: القانون التجاري، فالقانون الجنائي وقانون الطابو، ثم مجموعة القوانين التجارية وأخيرًا قانون التجارة البحرية، ومرةً على رأي الطائفة الثانية فظهر سنة ١٨٧٦ القانون المدني المسمى بـ (مجلة الأحكام العدلية)، حيث وقف وزير الحقانية (العدل) أحمد جودت باشا ضد رغبة الصدر الأعظم عالي باشا الذي كان يطالب بتبني القانون المدني الفرنسي، واستمد من الفقه الحنفي القانون بأكمله، ولكنْ وفق أسلوب التقنين الفرنسي، وهكذا شهدت الدولة الإسلامية أول تجربة رسمية لقانون مدني (بالمعنى الحديث لكلمة قانون مدني) مستمد بكامله من الفقه الإسلامي، ويواكب طريقة التقنين الغربي ويسير على هديه، من حيث الترتيب والترقيم وطريقة التعبير الآمرة، والاقتصار على قول واحد مختار للعمل به.
وبدأت تظهر شروح للمجلة على طريقة الشرح الكلاسيكي ما بين المتن وشرحه لفقهاء متبحرين متمكنين منهم الشيخ خالد الأتاسي (١٨٣٧ ــ ١٩٠٨) مفتي حمص، ووالد رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي، والشيخ الفقيه الحقوقي المسيحي الماروني سليم رستم الباز (١٨٥٩ ــ ١٩٢٠)، والشيخ الفقيه التركي علي حيدر (ت: ١٩٣٤ أو ١٩٣٥).
إلى أن جاء العلامة الشيخ مصطفى الزرقا فتناول المجلة بطريقة مختلفة. طريقة يحدثنا عنها وزير المعارف السوري منير العجلاني فيقول: “لم ينسج الزرقاء على منهاج من سبقوه من شراح مجلة الأحكام الشرعية، والتي كانت تمثل القانون المدني العثمانـي القديم، الذين جعلوا الفقه (فتاوى) و(قضايا) و(جزئيات)، وإنما حاول أن يدرس المجلة كما يدرس الأساتذة الفرنسيون في كلية الحقوق بباريس مادة القانون المدني، فجمع من أحكام القرآن الكريم والحديث النبوي الشـريف وآراء الفقهاء، من مختلف المذاهب، ما يؤلف نظريات عامة تشبه النظريات الأوروبية الحديثة، وقد وفق في محاولته توفيقًا كبيرًا”.
كان العلاّمة الشيخ مصطفى الزرقا (١٩٠٤ ــ ١٩٩٩) يجيد اللغة الفرنسية، وكان متضلعًا متبحرًا في الفقه الإسلامي، إلى درجة أن تسالم المشايخ والفقهاء في عالمنا المعاصر على تلقيبه بـ (عميد الفقه الإسلامي)، وكان في الوقت ذاته مطلعًا متمكنًا من النظريات الحقوقية الفرنسية، وبهذا انتقل خطوة أخرى في معالجة الفقه الإسلامي، وقفز قفزة تالية تجاوز فيها ما قامت به المجلة من التقنين على الطريقة الغربية الفرنسية
قام الشيخ الزرقا بأهم مغامرة فقهية في العصر الحديث فقلب صياغة الفقه الإسلامي وبنى من قواعده ومبادئه نظريات عامة على غرار النظريات الحقوقية الغربية
إلى صياغة الفقه الإسلامي ضمن هياكل النظرية الحقوقية الغربية، ثم الاقتباس من التشريعات الغربية مما لا نظير له في الفقه الإسلامي. يقول الشيخ الزرقا: “لا نأبى الاقتباس، فإن الحكمة ضالة المؤمن، ولكننا أثرياء في المادة، وإنما نحن بحاجة إلى اقتباس الأساليب الحديثة في البحث الفقهي وترتيبه، وإلى بعض الأحكام الجديدة التي نظمتها التشريعات للأوضاع الحقوقية والاقتصادية الحديثة، كشركات المساهمة، وعقود التأمين، على أن نخرّجها على قواعد فقهنا تخريجًا يقيمها على أصوله ويدمجها فيه، كما كان يفعل فقهاؤنا الأعاظم تجاه الأوضاع والحوادث الجديدة التي كانوا يواجهونها”
لقد قام الشيخ الزرقا بأهم مغامرة فقهية في العصر الحديث فقلب صياغة الفقه الإسلامي وبنى من قواعده ومبادئه نظريات عامة على غرار النظريات الحقوقية الغربية فكان من أول من أصّل للنظريات الآتية مجتمعة:
ــ نظرية الالتزام العامة.
ــ نظرية الملكية.
ــ نظرية الارتباط التعاقدي.
ــ نظرية الشروط العقدية.
ــ نظرية المؤيدات التشريعية.
ــ نظرية الأهلية.
ــ نظرية الضمان.
وكان الشيخ الزرقا وهو يخرج هذه النظريات تباعًا يؤثر ويتأثر فيمن يدانيه في المرتبة والتوجّه من الفقهاء من أمثال الشيخ علي الخفيف، وتلميذه الشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ فهمي أبو سنة، بل وما كان يستنكف أن يستفيد ويستشهد بتلاميذه أو من هم في حكم تلاميذه الذين أخذوا رأس الخيط منه ومن مجايليه، كالدكتور فتحي الدريني صاحب (نظرية التعسف في استعمال الحق)، والدكتور صبحي المحمصاني مؤلف (النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية)، وسواهم، ولكن لا بدّ من الإشارة ههنا إلى مؤلف مسيحي قبطي ربما كان له التأثير الأكبر في لفت نظر الشيخ لصياغة الفقه الإسلامي ضمن
كانت مسيرة هذا التقنين الذي بدأ سنة ١٨٧٦، هو مسيرة الإصلاح الإسلامي بوصفه التجلي الأقرب لآية المدافعة القرآنية
نظريات الحقوق الغربية وهو شفيق شحاتة الذي كان سبّاقًا فقدم رسالة دكتوراه في كلية الحقوق بالقاهرة، بعنوان (النظرية العامة للالتزامات في الشريعة الإسلامية)، ونشر مقدمتها سنة ١٩٣٦ مجلة الرسالة.
لقد كانت مسيرة هذا التقنين الذي بدأ سنة ١٨٧٦، هو مسيرة الإصلاح الإسلامي بوصفه التجلي الأقرب لآية المدافعة القرآنية التي تقول: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرًا}. إذ يندرج تحت المدافعة بعمومها مدافعة الأفكار والنظم والمبادئ والقيم والأخلاق، مدافعة تختلط في جنباتها المزاحمة والمواءمة، والاستجابة والمقاومة، والكرّ والفرّ، وتؤدي في النتيجة إلى السَّنّ والشحذ والصقل والإرهاف، والترقي والتطور والارتقاء، ولكي ندرك بحق فائدة ما جناه الفقه الإسلامي من الاستلهام من التقنين الفرنسي يجب أن نقارن بين نمطين من التقنين: نمط التقنين الوفي للتقليد الإسلامي في الترتيب والتبويب ممثلًا بمجموعة (الفتاوى الهندية) والتي تسمى أيضًا (الفتاوى العالمكيرية) نسبة إلى الإمبرطور الهندي أورنك زيب عالمكير (١٦١٩ ــ ١٧٠٧) الذي أنشأ مجلس فقهاء وأمر بكتابتها سنة ١٦٦٢، فظهرت خالصةً ونقيةً من شوائب الاستلهام الغربي والأجنبي، وبين (مجلة الأحكام العدلية) التي اقتبست من التقنين الفرنسي طريقته وأسلوبه، فغدت “أعظم صرح فقهي في العالم” بحسب تعبير عميد الفقه الإسلامي مصطفى الزرقا.