حزن حماة: رثاء للشيخ محمد شيخ صبح رحمه الله
حزن حماة
الشيخ محمود شيخ صبح في ذمة الله تعالى.. وقد غادرنا البارحة يوم الجمعة بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يأخذ من همة الشيخ ولم يفت بها، كانت همته عالية متقدة لا تعرف كللا ولا مللا..
كان صبورا فقد ابتلي في وفاة العديد من أبنائه ولم يفت ذلك من عضده.
كان شاعرا، ينطق بالشعر دون عناء ودون تحضير مسبق، تسعفه فطرته الشعرية عند كل مناسبة تمر به.
كان مخلصًا لذكرى وفاة زوجته يذكرها دومًا ويقول فيها الشعر الجميل الذي يكسوه الأدب والحنان.
مات عن ٨٤ عاما وكان معطاءا حتى آخر أيامه متقد الذهن حاضر البديهة.
كانت الفكاهة لا تغادر مجلسه مع زواره فلا تجده إلا مبتسما حتى أن الجالس لا يستشعر بآلامه ولا بما يلمُ به.
كان كريما، مسارعا في البذل وخاصة لطلبة العلم. يرعاهم ويقدم لهم كل عون.
عندما كنت أبحث عن مشرف شرعي لرسالة الدكتوراه وقد اعتذر الكثيرون عن ذلك، واشترطت جامعة حلب ذلك. ذهبت لزيارة الشيخ لأذكر له همي، وكان يتابعني دوما ويتابع بحثي قراءة ودعاء وتحفيزا.
فقال: جهز سيارة لنذهب في جولة لزيارة علماء دمشق وسيسر الله لنا ذلك، فقلت له: ليس عندي سيارة وليس معي تكلفة تلك السفرة.
فاتصل بي في اليوم الثاني وقد اتفق مع رجل الأعمال سليمان الذكرى لنذهب بسيارته رحمه الله الذي قاد السيارة بتواضع مشهود له..
كان الشيخ كثير التبسم والمرح دون أن يخل ذلك بمجلس الأدب، وكان الحاج سليمان رحمه الله جديًا يكاد الابتسام يختفي من مجلسه دون أن يخل ذلك بحضوره المهيب، فتصوروا كيف كان طريق سفرنا، كان المرح رفيقنا، فالشيخ يقول أشعار الغزل والحاج سليمان يزجره، مما جعل الرحلة جميلة تتسم بالمرح والثقافة معا.
زرنا العديد من العلماء في دمشق أكثرهم اعتذر عن الإشراف كالشيخ البوطي رحمه الله والشيخ وهبة الزحيلي رحمه الله وغيرهم، ثم قال الشيخ محمود: فارس هذه المهمة هو الشيخ مصطفى الخن، فذهبنا لبيته واستقبلنا بحفاوة رحمه الله، وقبل الإشراف بكرم أدهشني، وسررت جدا بذلك فهو الأستاذ الدكتور الشهير وقد أكرمني الله بقبوله للإشراف.
ثم ذهبنا برفقة الشيخ محمود رحمه الله لزيارة العارف بالله الشيخ عبد الرحمن الشاغوري وبيته يقع أعلى جبل ركن الدين أو ما يعرف بجبل العلماء، وقد كُتب على باب بيته نعتذر عن الزيارة، فضحك الشيخ محمود وطرق الباب ففتح ابن الشيخ الجليل الشاغوري وطلب منا الانتظار لدقائق ريثما يجهز أباه، ثم أدخلنا، وأنا مشدوه بالهدوء الذي يكسو البيت وأهله، فإذ برجل كبير في السن نحيل جدا وكأنه بلا لحم، إنه الشيخ الشاغوري رحمه الله، أجلسه ولده، ثم بدأ الشيخ الشاغوري يرحب بنا وأنا لا أنطق بكلمة لدهشتي بالمجلس، ثم شكى المرحوم سليمان الشيخ محمود للشيخ الشاغوري وأخبره عن أشعار الغزل التي أفاض بها علينا في الطريق. فاستدار الشيخ الشاغوري سائلا الشيخ محمود ماذا قلت؟ فصار الشيخان رحمهما الله يتبادلان أشعار الغزل بمرح مشهود، والحاج سليمان يشتاط غيظا.. وانتهت زيارتنا المميزة فعلا. صدقا: لما لمحت الشيخ الشاغوري عند دخولي ظننت أنه ميت، ثم سرعان ما تبين لي مرحه وشعره وفطنته وحضوره وكأن غيره هو من كان مستلقيا.
عدنا لحماة وقد حلّ الشيخ محمود إشكال أطروحتي بوجود مشرف شرعي، وتفضل الحاج سليمان بكرمه وجوده عليّ، ومازالت تلك الرحلة حاضرة في ذهني وذاكرتي، حتى اليوم، فقد رأيت أناسا كرماء بسطاء أصحاب أدب وعلم وشعر يكسوهم إيمان يزين حضورهم وقد حباهم الله بكل ذلك، فشدَّ ذلك من عضدي بعد مسيرة بحث استغرقت ٧ سنوات أبحث فيها عن المراجع والعلماء بين العديد من الدول التي سافرت لها.
وحتى قبل موت الشيخ محمود بأيام زرته في رمضان، كان سؤاله الدائم: هل تحتاج مالا؟ هل أنت في ضيق؟ أنا ومالي بخدمتك.. وهذا حاله مع أغلب طلبة العلم إن لم أقل كلهم.
رحمك الله يا أبا أسامة… أحببناك في الله تعالى.. ونرجوه أن يثيبك من كرمه وفضله ورحمته مغفرة وقدرا رفيعا.. وصحبة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..