إدارة الأزماتالمصارف والمؤسسات المالية

28 مصرفاً فشل بزيادة رسملته.. مليارات الدولارات اختفت

القطاع المصرفي أمام تغييرات جوهرية ستظهر نتائجها في الأسابيع المقبلة. ومن البديهي أن شهور العسل التي حكمت علاقة الثالوث: الحكومة – المصرف المركزي – جمعية المصارف، ولّت إلى غير رجعة، وانقضى الموعد النهائي لشهر شباط 2021، ولم تحدث الزيادة المطلوبة في رأس المال -بقيمة تقدر بنحو 4.1 مليار دولار- ولا عمليات التصفية المصرفية. والأزمات متصاعدة في القطاع بموازاة إقفال منافذ المصارف المراسلة، وعدم تمكن 28 مصرفاً من زيادة رسملته بنسبة 3% من قيمة ودائعه. والبديهي تأكيده أيضاً أن الأزمة المصرفية اللبنانية إلى المزيد من التعقيد.

لماذا هذا الكلام الآن؟
السؤال البديهي هو إذا كانت إجراءات قطع العلاقة مع المصارف المراسلة تتضمن مصرف لبنان أم جميع المصارف التجارية؟ وكيف لا؟ فوقف المصارف لكافة التسهيلات المصرفية للشركات والأفراد، بما فيها التحويلات، يطرح علامات استفهام حول استمرار تحويل أموال المغتربين وغير المقيمين إلى لبنان، لا سيما أن المغتربين وغير المقيمين بدأوا يعيدون النظر بتحويل الودائع إلى لبنان في ظل الكابيتال كونترول capital control (ضوابط وقيود على رأس المال) الذي تمارسه المصارف مؤخراً، وإن بصورة غير رسمية.

سؤال آخر هو عن سمعة القطاع والعمليات الاعتباطية للمصارف في التصرف بأموال المودعين يُسمع صداه عالمياً. فالاحتياطيات الأجنبية العالقة في البنوك مهمة في هذا الإطار، ولا تزال الأزمة بين مصارف يمنية و”بنك بيروت” عالقة، على الرغم من تدخل المصرف المركزي في كل من اليمن ولبنان لمعالجتها. وتتمثل المشكلة بوجود أرصدة عائدة لمصارف يمنية لدى “بنك بيروت”، تتعلق بالتزامات ناشئة عن اعتمادات مستندية، مغطاة من وديعة سعودية. وهي عبارة عن هبة مقدمة من البنك التجاري السعودي. وكان تم الاتفاق على العقد مع “بنك بيروت” لفتح حسابات تستحق لشركات باكستانية لتصدير الأرز، ثمناً للبضائع المستوردة. لكن عقب تنفيذ العقد، توقف “بنك بيروت” عن تحويل المبلغ المستحق، بعدما بدأت أزمة التحويلات تتفاقم داخلياً، في ظل الحظر الذي فرضه المصرف المركزي على المصارف.

أموال يمنية وسورية وعراقية
ويمكن حصر الاحتياطيات الأجنبية العالقة بالتالي:

– ما بين 20 مليار دولار و42 مليار دولار تخص مودعين سوريين محاصرة في لبنان. ولطالما استخدم رجال الأعمال السوريون البنوك اللبنانية لتجنب العقوبات الدولية والقيود الأخرى.

– في وقت سابق من عام 2020، أشار بحث أجراه مركز أبحاث يمني، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، إلى أن ما يصل إلى 20% من احتياطيات اليمن من العملات الأجنبية، المقدرة بنحو 240 مليون دولار، عالقة في البنوك اللبنانية.

– ما يصح على الأموال اليمنية يصح كذلك على الأموال العراقية، التي استثمرت في المصارف اللبنانية، وعلقت فيها. لكن مصادر مصرفية أكدت أن الجانب العراقي ليس في وارد فتح أزمة مع المصارف اللبنانية لسببين. أولهما، أن المصارف اللبنانية لديها وجود مهم في العراق، ومن الطبيعي أن توظّف الودائع الموجودة لديها في المصرف الأم، أي في لبنان. وثانيهما، يكمن في أن جزءًا كبيراً من الأموال العراقية لم يدخل على نحو قانوني إلى المصارف اللبنانية، بل حوّلت من خلال عمليات تهريب أو بيع للعملة.

– وفي حين لا يمكن مقاربة حجم هذه الأموال في ظل نظام السرية المصرفية المعمول به في لبنان، إلّا أن التقديرات تتحدث عن مئات الملايين، التي يعود جزء منها إلى الحكومة العراقية، وكانت تودع بأسماء شخصيات لبنانية قريبة من السلطة. ولم ينفع القانون الصادر عام 2010 المتعلق بإنشاء صندوق لاسترداد أموال العراق في إعادة أي من الأموال الموجودة في لبنان. 

الودائع الخليجية وأموال كردستان
أما بالنسبة إلى الودائع الخليجية في لبنان، فتفيد مصادر مصرفية مطّلعة أنه على الرغم من عدم القدرة على تحديد حجمها، نظراً إلى قانون السرية، لكنها لم تعد كبيرة، بعدما عمد مودعون كثر إلى سحب جزء غير بسيط من ودائعهم. وهذه العملية بدأت فعلياً منذ عام 2017، تاريخ استقالة رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري من الرياض، حين سُجّل بعدها خروج ما يقارب 3 مليارات دولار من القطاع المصرفي اللبناني، واستمرت منذ ذلك التاريخ وتيرة استنزاف الودائع وقسم كبير منها يعود إلى مودعين عرب.

وفي إقليم كردستان شمال العراق شبه المستقل، ادعى السياسيون هناك أن ما يصل إلى مليار دولار من الأموال من مبيعات النفط كانت محاصرة في بنك ميد اللبناني. من الواضح بالفعل أنه قد لا يتم استرداد مليارات الدولارات أبدًا، لأن البنوك اللبنانية ببساطة لا تملك الأموال اللازمة لدفعها للمودعين. ففي آب 2020، قال البنك المركزي إن البنوك المحلية لديها ستة أشهر لرفع مقدار رأس المال الذي تحتفظ به إلى 20%. يشمل رأس المال هذا الأصول -الأموال النقدية والأسهم التي في حوزة البنك- التي يمكن استخدامها لتحمل الأزمات. وللمقارنة، بلغت نسبة رأس مال البنوك التي يشرف عليها البنك المركزي الأوروبي حوالى 15% في عام 2019.

الخسائر الهائلة
أما الأهم فهو إن أصبح المجتمع الدولي لا يثق بملاءة القطاع المصرفي اللبناني لتغطية مراكزه. وقد أظهرت الدراسات الأخيرة أنه يمكن أن يصل التقييم الكامل للخسائر (المباشرة وغير المباشرة) التي تكبّدتها المصارف اللبنانية في محافظ أصولها إلى ما مجموعه 62.4 مليار دولار أميركي. وتقدّيرالاستشاري لازار أنّ لدى المصارف خسارات أخرى تبلغ 13.3 مليار دولار من القروض المتعثرة، من دون احتساب إمكانية استرجاع أي مبالغ منها، و17.8 مليار دولار متعثرة من سندات الخزينة بالليرة والدولار. ليصبح المجموع 84.1 مليار دولار.

وهذه هي التكلفة الكلية بعد دمج خسائر مصرف لبنان ضمن خسائر البنوك. هنا أيضاً يمكن اعتبار الـ17.8 مليار دولار خسارة تُعزى إلى نصيحة لازار بالتوقف عن خدمة الدين السيادي للدولة وخسارة مصرف لبنان بنحو 40.9 مليار دولار من الأصول (مصرف لبنان لا يعتبرها خسائر كونه مُخوّل بخلق السيولة للمحافظة على الملاءة المالية). وقدرت لازار أيضاً خسارة مصرف لبنان من حيازة سندات الدولة بـ20.8 مليار دولار (من غير أن توضح كيف توصّلت إلى هذا الرقم، وما هي الأسباب الداعية لاعتبار سندات تستحق بعد سنوات عدة بِدَين معدوم). فيصبح مجموع الخسائر 61.7 مليار دولار. فهل يمكن أن تغطّى الخسارة من خلال تحويل ودائع إلى أسهم بمقدار 20.7 ملياراً و”هيركات” بمقدار 63.4 مليار دولار من ودائع المودعين المتبقية.

15 من أصل 43 مصرفاً
أكدت مصادر مصرفية لـ”المدن” أن 15 مصرفاً فقط من أصل 43 مصرفاً عاملاً في الأسواق اللبنانية استطاع تلبية زيادة رسملته. وهي المصارف التي نجحت في تطبيق النقطة الثانية الواردة في تعميم مصرف لبنان​، التي طلبت إلى المصارف زيادة رسملتها في المصارف المراسلة في الخارج بنسبة 3% من قيمة ودائعها، وتطبيق مضمون المذكرة 13/2019 (لجنة الرقابة على المصارف)، والتي طُلب فيها من المصارف رفع رساميلها من خلال السماح للمساهمين بضخ المزيد من السيولة بنسبة تصل إلى 20% من رأسمالها الحالي، بدءاً من نهاية 2019 وحتى نهاية 2020. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المذكرة تأتي متأخرة 4 سنوات عن توصية لصندوق النقد الدولي ووفقاً لمشورة برنامج تقييم القطاع المالي (FSAP) لعام 2016، لمواصلة بناء رؤوس الأموال الوقائية لدى المصارف، وزيادة مستويات التغطية التأمينية للودائع وضرورة تحقيق الاتساق التام مع اتفاقية بازل الثالثة، فيما يتعلق بأوزان مخاطر حيازات المصارف من أدوات مصرف لبنان، ويمثل آلية جيدة لزيادة رأس المال الإلزامي الفعلي.

احتساب الخسائر
المعضلة هي في احتساب الخسائر واحتساب الرأس المال التنظيمي الإلزامي مستويات الحد الأدنى، المقررة في اتفاقية بازل الثالثة. ونجد أن رؤوس الأموال الوقائية لدى المصارف متواضعة مقارنةً بارتفاع درجة تعرضها للدين السيادي بالعملة المحلية وسندات مصرف لبنان الصادرة بالعملات الأجنبية. علماً بأن أوزان المخاطر السيادية لا تتسق مع المعايير الدولية.

والأهم اليوم هو فلسفة احتساب الخسائر. فلقد أوصى المركزي المصارفَ باحتساب خسائر بنسبة 45 بالمئة على سندات خزينة الحكومة اللبنانية بالعملات الأجنبية، أو سندات اليوروبوند التي اكتتبت بها. وبنسبة 1.89 بالمئة على توظيفاتها بالعملات الأجنبيّة لدى مصرف لبنان، على أن تقوم المصارف بتجنيب مخصصات لهذه الخسائر بشكل متدرّج خلال خمس سنوات. ولم يضع مصرف لبنان احتساب خسائر سندات الخزينة بالليرة. وبذلك، على القطاع المصرفي اتخاذ مخصصات بقيمة 5 مليارات دولار مقابل الخسائر على اليوروبوند. إذ تُقدر قيمة اكتتاب القطاع المصرفي في سندات اليوروند بـ11 مليار دولار.

وتكمن الإشكالية الحقيقية في احتساب خسائر اليوروبوند قد تصل إلى 65 بالمئة وليس 45 في المئة. أما نسبة الخسائر على ودائع المصارف بالعملة الأجنبية فتفوق النسبة التي حددها المركزي.

كذلك تؤدي بيئة أسعار الفائدة المتصاعدة إلى مخاطر على ربحية المصارف ومراكز رأس المال. وبالإضافة إلى ذلك، فمن المرجح أن التباطؤ الملاحظ في الاقتصاد والقطاع العقاري قد أثرا على جودة الائتمان. كما توجد علامات تشير إلى أن زيادة سوف تطرأ على القروض المتعثرة.

ما يعرفه قلة قليلة أن أداء المصارف التجارية وضع الأقتصاد الوطني في مؤشرات خطرة، إن قيس هذا النشاط بالمعدلات العالمية التي يعتمدها صندوق النقد الدولي في تقييمه لأداء القطاعات المالية Financial Sector Assessment Program (FSAP). وكان صندوق النقد الدولي في ختام مشاورات المادة الرابعة في 2018، قد حذر “من ضرورة زيادة مستويات رأس المال المصرفي. فبينما يتجاوز رأس المال التنظيمي الإلزامي مستويات الحد الأدنى المقررة في اتفاقية بازل الثالثة، نجد أن رؤوس الأموال الوقائية لدى المصارف متواضعة مقارنةً بارتفاع درجة تعرضها للدين السيادي بالعملة المحلية وسندات مصرف لبنان الصادرة بالعملات الأجنبية، علماً بأن أوزان المخاطر السيادية لا تتسق مع المعايير الدولية”.

ماذا بعد؟
المصارف باتت غير قادرة على الالتزام بأي معايير موحّدة لضبط السيولة بالدولار الأميركي المتوفّرة بحوزتها، من ناحية تحديد الحالات الاستثنائيّة التي يُسمح فيها بإجراء تحويل الدولارات إلى الخارج، لكون وجود هذه الدولارات بات غير مضمون في كثير من المصارف. والأزمة هنا معقّدة ومترابطة، بين ثالوث الدّولة-المصارف-المصرف المركزي، الذي تنكشف عناصره على عوامل الخطر ذاتها، وهي لهذا السبب ستسقط سويّة (بمعنى أنّ الدّولة لن تجد من يجدّد دينها بالليرة والدولار ويشتري سنداتها من جديد ويغطي عجزها، وأموال المصارف أكثرها في هذا الدّين، والمصرف المركزي – الذي يفترض به أن يظلّ على مسافة آمنة من مخاطر القطاع المحلّي – متورّطٌ مثل المصارف التجارية. ولا نعرف حقيقة أصوله وحجمها وإلى أي مدى سيتمكن من تغطية الاستيراد والدفاع عن الليرة). فالمطلوب إجراء تغيير جذري في أسس الاقتصاد اللبناني، وتحويله من اقتصاد ريعي يدمر البيئة وتستفيد منه القلة، إلى اقتصاد إنتاجي متوازن ومستدام يستجيب لمصالح الأكثرية في كل مناطق لبنان. وهذا الأمر يتطلب إجراءات لتحويل الموارد من الريع والممارسات الاحتكارية الطابع إلى الإنتاج التنافسي، عبر نظام ضريبي حديث وعبر الاستثمار العام في البنى التحتية.

وحين نتحدّث عن تطيير الأموال منذ بداية الأزمة، فنحن نتحدّث عن ما يقارب 11 مليار دولار، التي ذهبت من موجودات المصارف الخارجيّة، منذ شهر تشرين الأوّل الماضي، وعن أكثر من 12.4 مليار دولار التي اختفت من موجودات مصرف لبنان الخارجيّة. وهو ما يعني أن أكثر 23.4 مليار دولار غادرت النظام المالي اللبناني، ولم يصبّ سوى جزء صغير منها في عمليّات استيراد السلع الأساسيّة.

https://www.almodon.com/economy/2021/4/12/28-مصرفا-فشل-بزيادة-رسملته-مليارات-الدولارات-اختفت

Copyright 2023 Kantakji.com - Developed by Kantakji-tech