الخطر الحقيقي في أميركا بعد زوال كورونا هو الانهيار الاجتماعي
ارتفاع البطالة وفقدان ثلث الأميركيين لأي مدخرات ينذر بأخطار مُحدقة
على الرغم من روح التفاؤل التي حاول الرئيس الأميركي دونالد ترمب بثها في نفوس الأميركيين عبر مطالبته بوقف حالة الإغلاق في المجتمع للحيلولة دون تدمير للاقتصاد، إلا أن استمرار انتشار وباء كورونا بمعدلات متسارعة في الولايات المتحدة خلال الأيام القليلة الماضية وسقوط 160 ضحية في يوم واحد، جعلها أقرب إلى بؤرة أخرى من البؤر العالمية للوباء القاتل، تنذر بإغلاق مزيد من المصانع والشركات والمؤسسات وما يترافق معها من تسريح للعمال والموظفين.
ودفعت هذه المخاوف خبراء في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية إلى إطلاق صيحة تحذير من أنه إذا لم تجد أزمة فيروس كورونا حلاً ناجعاً خلال ستة أشهر، يسمح بإنهاء حالة إغلاق الحدود وتنقل الأشخاص والبضائع وانحسار العرض والطلب، فإن الأزمة ستؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وهو ما يمكن أن يقود إلى انهيار اجتماعي في الولايات المتحدة، بخاصة أن أكثر من ثلث المجتمع الأميركي لا يملك مدخرات تعينه على تجاوز الأزمة، ولهذا فإن النصيحة التي يقدمها هؤلاء الخبراء، هي ألا ينصب تركيز أصحاب القرارات الاقتصادية على حماية الأسواق المالية والشركات بقدر ما ينبغي أن يركز على حماية الروابط الاجتماعية، حتى لا تتكرر مشاهد السلب والنهب التي حدثت بعد كارثة إعصار كاترينا في مدينة نيو أورلينز عام 2005.
خطوة مثيرة للجدل
منذ بداية مارس (آذار) الحالي، بات العالم كله أسيراً للشر الذي حمله وباء كورونا، شرٌّ لم يتمكن العالم من التعامل معه بشكل فعال أو أن يقدم أحد من الخبراء أو المسؤولين توقعات جادة بشأن انتشاره أو انحساره. وبينما عبّر الرئيس ترمب عن عزمه إنهاء حالة الإغلاق عن المناطق التي لم تتأثر كثيراً بالوباء قبل عيد الفصح أي بعد أقل من ثلاثة أسابيع، إلا أن مسؤولي الصحة يحذرون من التسرع في اتخاذ هذه الخطوة بمَن فيهم أنطوني فوسي العضو البارز في فريق البيت الأبيض لمكافحة فيروس كورونا. كما فتح ذلك الباب أمام جدل واسع داخل الكونغرس وبين المواطنين الأميركيين.
وتشير مجلة “فورين أفيرز”، إلى أنه “لا يجب فهم التداعيات الاقتصادية لوباء كورونا على أنها مشكلة عادية يمكن للاقتصاد الكلي أن يحلها أو يخفف من تأثيراتها، ذلك أن الاقتصاد العالمي نفسه يمكن أن يشهد تحولاً جوهرياً”.
وبدا التأثير المباشر للأزمة ماثلاً في تراجع العرض والطلب معاً، حيث تراجع العرض بسبب إغلاق الشركات والمصانع أبوابها أو خفض حجم الإنتاج من أجل حماية العمال من فيروس كورونا. كما أن خفض أسعار الفائدة الذي صدر قبل أيام لا يمكن أن يعوض نقص العمال. وتفاقمت أزمة العرض بسبب انخفاض الطلب الناتج من تقييد حركة الناس وإدراكهم عدم توافر السلع والخدمات التي يستهلكونها، فضلاً عن إغلاق الحدود وحظر حركة الطيران.
وإذا ظل الناس خائفين أو ممنوعين من الذهاب إلى المطاعم والاجتماعات أو المشاركة في الأحداث العامة بسبب احتمال الإصابة بالعدوى، فإن أي جهود لتحفيز الطلب لن يكون لها سوى تأثير ضئيل للغاية مقابل أولوية الصحة العامة.
تحول عميق
وإذا استمر الوضع الحالي، فسيواجه العالم احتمال حدوث تحول عميق خلال الأشهر والسنوات المقبلة، وهي العودة إلى الاقتصاد الطبيعي أو ما يسمى باقتصاد الاكتفاء الذاتي وهو اقتصاد معاكس لاقتصاد العولمة الذي يقوم على توزيع العمل بين اقتصادات مختلفة.
ومع ذلك، فإن هذا التحول ليس حتمياً، فإذا تمكنت الحكومات من السيطرة على الأزمة الحالية خلال ستة أشهر، فمن المرجح أن يعود العالم إلى مسار العولمة مع بعض المراجعات لخطوط إنتاج وتوزيع سلاسل التوريد.
أما إذا استمر الحال على ما هو عليه ، فقد تنهار العولمة، وكلما طال أمد الأزمة، زادت العقبات أمام تحرك الأشخاص والسلع وتدفق رؤوس الأموال، وأصبح الأمر طبيعياً مع الوقت، وستتشكل مصالح خاصة تعمل على الحفاظ على الوضع الجديد، بينما يؤدي الخوف من ظهور وباء آخر جديد إلى دعم الدعوات المطالبة بتحقيق الاكتفاء الذاتي الوطني.
دروس من الرومان
ويقارن مؤرخون التفكك المحتمل للعولمة في المستقبل القريب، بتفكك أوصال الإمبراطورية الرومانية الغربية واعتماد أقاليمها على الاكتفاء الذاتي بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين، واقتصار التصدير على المنتجات الفائضة فقط لكل إقليم.
وفي الأزمة الحالية، فإن الاعتماد على إنتاج الطعام المحلي، وعدم الاحتياج إلى ماء أو كهرباء من دول أخرى، لا يعني فقط التأمين من الاضطرابات التي قد تنشأ من سلاسل التوريد الغذائية، أو التعرض لأزمات مائية أو كهربائية بسبب اضطراب خارج الحدود، وإنما يعني بالنسبة إلى الدول أنها باتت أكثر أماناً من أن تصيبها العدوى، أي أن الدولة أصبحت أشبه بشخص لا يأتيه الطعام من شخص آخر خارج المنزل قد يكون مصاباً، كما لا يحتاج إلى إصلاح أجهزة في المنزل من أشخاص قد يكونون مصابين أيضاً.
والدافع الرئيس وراء هذا التحول المحتمل، ليس الرغبة في إدارة اقتصاد مختلف وإنما الخوف من العدوى والرعب من الموت.
أزمات اجتماعية
ولهذا فإن الإجراءات الاقتصادية التقليدية يمكن أن تخفف من حدة الأزمة، لكنها يجب أن توفر الحماية للعمال والموظفين الذين سيفقدون وظائفهم ولا يوجد لديهم ما يعتمدون عليه، كما أنهم لا يتمتعون بتأمين صحي. هؤلاء الأشخاص يعجزون بسرعة عن دفع الفواتير والمستحقات المطلوبة منهم، وبالتالي يخلقون صدمات متتالية في المجتمع، بدءاً من طردهم من مساكنهم، وانتهاءً بالأزمات التي تعاني منها المصارف التي تخسر تمويلها للمساكن وللقروض المعدومة التي لا تُسدَد.
ويقول برانكو ميلانوفيتش، كبير الباحثين في مركز ستون للدراسات الاقتصادية الاجتماعية، إن “الضحية الرئيسية للمرض هم البشر الذين قد يؤدون إلى حدوث تفكك اجتماعي، وهم أولئك الذين تخلى عنهم المجتمع وأصبحوا من دون أمل في المستقبل، أو عاطلين عن العمل ومن دون مدخرات أو أصول. مثل هؤلاء الناس يمكن أن ينقلبوا بسهولة ضد مَن هم في وضع أفضل داخل المجتمع”.
نذير خطر
وذكّر ميلانوفيتش بأن “ثلث الأميركيين تقريباً لا يمتلكون مدخرات مالية ولا يتمتعون بأي ثروة”. وحذر من أنه “إذا دفعت الأزمة الحالية إلى خروج مزيد من الناس من دون مال أو وظائف أو رعاية صحية، وإذا أصبحوا يائسين وغاضبين، فإن مشاهد الهروب الأخير للسجناء في إيطاليا أو عمليات السلب والنهب التي أعقبت إعصار كاترينا في مدينة نيو أورليانز عام 2005 قد تصبح شائعة في المجتمع الأميركي.
وإذا اضطرت الحكومات إلى استخدام قواتها العسكرية أو شبه العسكرية لقمع أعمال الشغب أو الهجوم على الممتلكات ، فقد تبدأ المجتمعات بالتفكك”.
ولهذا ينصح الخبراء أن يكون الهدف الرئيس للسياسة الاقتصادية، هو منع الانهيار الاجتماعي والحيلولة دون أن تعمي الرغبة في حماية ثروات الأسواق المالية، حقيقة أن أهم دور يمكن أن تلعبه السياسة الاقتصادية خلال الأزمات، هو الحفاظ على الروابط الاجتماعية قوية تحت ضغط هذا الظرف الاستثنائي.