كيف ساهم الذكاء الاصطناعي في تطوير التعليم العالي؟
تعمل تقنيات التعلم الآلي وتحليل البيانات الضخمة على دعم الطلاب ومساعدة الجامعات على التعامل مع الضغوط المالية والإدارية.
مصدر الصورة: شاترستوك
بينما يتحول الذكاء الاصطناعي رويداً رويداً إلى جزء أساسي في مختلف المجالات العلمية والصناعية، بدأ يحرز تقدماً سريعاً في قطاع التعليم أيضاً في السنوات الأخيرة. وقد أشرنا في مقال سابق إلى عدد من المجالات التي يلعب فيها الذكاء الاصطناعي دوراً هاماً في مرحلة التعليم الأساسي. وفي هذا المقال، نستعرض كيف فتحت تقنيات مثل التعلم الآلي آفاقاً جديدة لتحسين العملية التعليمية في مرحلة التعليم العالي، وكيف تساهم في تطوير المؤسسات البحثية والجامعية.
شرح المواد وتقديم النصائح
على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي لا يتجسد اليوم -كما تتخيل أفلام الخيال العلمي- في شكل إنسان آلي يقف ليؤدي مهام أستاذ الجامعة، إلا أنه يظهر في أدوار أخرى مثل دعم الطلاب؛ فبعض الأنظمة -مثل أنظمة التدريس الذكية Intelligent tutoring systems (ITSs) التي تُستخدم في العديد من الجامعات لتدريس العلوم والرياضيات واللغات- مُصممة بهدف شرح المواد الدراسية للطلاب. وأحد الأمثلة على هذه الأنظمة هو ماتيا (MATHia) الذي تم تطويره في جامعة كارنيجي ميلون البحثية في الولايات المتحدة، والذي يهدف لمساعدة الطلاب على تعلم الرياضيات عن طريق العمل بطريقة تشبه “المدرس الخاص”، حيث يمكنه التكيف مع مستوى كل طالب على حدة، كما يوفر للطلاب ملاحظات فورية على إجاباتهم، وتقييماً لمستوياتهم في الوقت الفعلي. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها بالتفصيل هنا، مثل نظام ألتا (alta) المصمم لتدريس الرياضيات والكيمياء والاقتصاد، ونظام (Toppr) الذي تم تطويره في الهند، والذي يستخدم التعلم الآلي المبني على استجابات الطلاب لتوفير تقييم لمستوى كل طالب.
كما أن بعض برامج التعلم الآلي لديها القدرة على تقديم النصح للطلاب حول أفضل الدورات الدراسية أو المسارات الوظيفية المناسبة لهم – على طريقة مكاتب الاستشارات المهنية – وذلك اعتماداً على مدى نجاح أقرانهم السابقين -ممن تتشابه بياناتهم مع الطلاب الحاليين- في هذه الوظائف. وأحدث الأمثلة على هذه البرامج هو “محرك توصية المسار الوظيفي الذكي Smart Career Path Recommendation Engine” الذي أطلقه موقع Get Me A Course (GMAC) في شهر نوفمبر الماضي، والذي يساعد الأفراد على تحديد احتياجات التعلم والنمو الوظيفي، اعتمادا على إجاباتهم على أسئلة محددة سلفا وباستخدام خوارزمية للبحث عن مدى مناسبة مهاراتهم لمجموعة واسعة من المهن المتخصصة.
إضافة إلى ذلك، تمتلك بعض أنظمة الإنذار المبكر قدرات تنبؤية، معتمدة على تحليل البيانات لتحديد الطلاب الذين يتعرضون لخطر الفشل أو التسرب من الدراسة، وبالتالي تُمكّن المؤسسات التعليمية من التدخل في الوقت المناسب.
وفي الوقت الحالي توفر التطبيقات وأنظمة التدريس عبر الإنترنت، مثل (Carnegie Speech) إمكانية تعلم اللغات الأجنبية، باستخدام تقنيات التعرف التلقائي على الكلام (ASR) ومعالجة اللغات الطبيعية (NLP)، من خلال اكتشاف أخطاء اللغة ومساعدة المستخدمين على تصحيحها.
وظائف إدارية
لا يتوقف استخدام الذكاء الاصطناعي فقط عند الجوانب العلمية، حيث يشير الكاتب لاس روهياين، المتخصص في قضايا الذكاء الاصطناعي، في مقاله بمجلة هارفرد بيزنس ريفيو، إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لتسريع الجوانب التنظيمية، كما هو الحال في جامعة مرسية الإسبانية التي تستخدم روبوت محادثة مزود بإمكانات ذكاء اصطناعي للرد على أسئلة الطلاب الجدد حول مجالات الدراسة وخطوات عملية التسجيل والالتحاق بالجامعة، مشيراً إلى أن مسؤولي الجامعة اندهشوا من قدرته على الإجابة على حوالي 39 ألف سؤال، بنسبة دقة وصلت إلى 91%. وبالإضافة إلى إجاباته الفورية خارج ساعات العمل، فإنه رفع من مستوى التحفيز الدراسي للطلاب.
الهدف الأساسي لمثل هذه الأنظمة هو تمكين الطلاب من العثور على المعلومات بشكل أسرع ومن مصدر واحد، وتحرير المعلمين والموظفين من الأعمال الروتينية، مثل شرح كيفية التسجيل والقواعد التنظيمية للدراسة، ومنحهم فرصة أكبر لتقديم المزيد من المساعدة الفردية للطلاب، وبالتالي تحسين العملية التعليمية دون الحاجة لموظفين جدد.
هذا النجاح الذي بدأت تُحدثه مثل هذه الأنظمة الذكية قد دفعَ العديد من المراكز البحثية والجامعات إلى نشر أنظمة مماثلة، كما أن البيانات الضخمة التي يتم جمعها من هذه الأنظمة تستخدم فيما بعد لتغذية شبكات التعلم الآلي من أجل تطوير برامج تعليمية متخصصة وتحسين تجارب الطلاب.
مثال آخر على استخدام الذكاء الاصطناعي في الجامعات يذكره الباحثان ستيفان بوبينيتشي وشارون كير، في ورقة بحثيةمنشورة عام 2017، في دورية “البحوث والممارسات في التعلّم المعزز تكنولوجياً”، بخصوص استخدام كمبيوتر واتسون من آي بي إم (IBM Watson) لتقديم المشورة لطلاب جامعة ديكن في أستراليا، في أي وقت من اليوم وطوال 365 يوماً من السنة، دون توقف أو إجازات. حيث يستطيع الكمبيوتر العملاق أن يستخدم موقع الجامعة تلقائياً للبحث عن إجابات لأسئلة الطلاب حول موضوعات مثل مواعيد تسليم التكليفات، وطرق الامتحانات، وكيفية استكمال إجراءات الالتحاق بالجامعة، كما يمكنه أن يستوضح من الطلاب عن بياناتهم لتحديد الإجابات المناسبة لكل شخص.
وعلى الرغم من أن هذه المشورة تستند إلى خوارزميات مناسبة فقط للمهام المتكررة التي يمكن التنبؤ بها نسبياً، إلا أن استخدام واتسون يعد مثالاً للتأثير المستقبلي للذكاء الاصطناعي على الهيكل الإداري وجودة الخدمات داخل الجامعة؛ إذ إن المهام التي يقوم بها الكمبيوتر تساهم في توفير الوقت وحل المشكلات بطريقة أكثر كفاءة، مما يقلل الحاجة إلى الموظفين الإداريين بشكل واضح.
الروبوت المعلم
علاوة على ذلك، ساهم الذكاء الاصطناعي في تسهيل عقد ما يعرف بـ “الدورات الضخمة المفتوحة عبر الإنترنت” Massive Open Online Courses (MOOCs). فمع الزيادة المستمرة في أعداد الطلاب وأحجام الفصول الدراسية، والضغوط المالية على الجامعات، ظهرت الحاجة إلى عقد الدورات، التي مكّنت الطلاب من التسجيل والمشاركة في برامج التعليم العالي عبر الإنترنت من أي بلد في العالم. إلا أنها سرعان ما أظهرت محدودية القدرات البشرية؛ إذ واجه أساتذة الجامعات مصاعب جمة في متابعة الأعداد الهائلة من الطلاب الذين يحضرون الدورات من مناطق زمنية مختلفة وبمعدلات تحصيل مختلفة، وبالتالي ظهرت الحاجة إلى أتمتة بعض وظائف المعلمين، لا سيما المهام التي لا تحتاج بشكل ضروري إلى وجود معلم بشري، مثل توجيه النقاشات العلمية بين عدد كبيرة من الطلاب.
وفي تجربة رائدة في هذا المجال، طوّر علماء من جامعة أدنبرة في المملكة المتحدة، عام 2014، ما أطلقوا عليه اسم الروبوت المعلم (Teacherbot)؛ حيث تمت برمجته على تأدية بعض “وظائف الُمعلم”. وبحسب ورقة علمية نشرتها أستاذة التعليم الرقمي في جامعة أدنبرة شين باين، عام 2015، تحت عنوان “الروبوت المعلم: تدخلات في التدريس الآلي”، في دورية “التدريس في التعليم العالي Teaching in Higher Education”، فإن الطبيعة السريعة والحيوية لموقع (تويتر) وفرت بيئة مثالية لإطلاق العنان لأولى تجارب الروبوت -الذي أطلق عليه الطلاب اسم بوتي (botty)- موضحة أن هذا النظام يتكون من واجهة مستخدم رسومية، ونظام إدارة قواعد بيانات يعتمد على لغة (إس كيو إل)، وروبوت مبرمج على لغة الجافا، يخزن التغريدات التي تستخدم وسم #edcmooc في قاعدة البيانات.
واستخدم المعلمون واجهة المستخدم الرسومية لوضع قواعد الردود على هذه التغريدات، وبالتالي تمكن هذا الروبوت من تعلم كيفية الرد على الأسئلة التي تستخدم كلمات معينة، مثل السؤال عن الموعد النهائي لتسليم الأبحاث. وقد استخدم هذا الروبوت في دورة ضخمة (موك) بجامعة أدنبرة، حول “التعلم الإلكتروني والثقافات الرقمية” حضره حوالي 90 ألف طالب عبر الإنترنت.
ووضعت باين، نماذج لعدد من النقاشات العلمية التي أجراها الروبوت مع الطلاب حول موضوع الدورة، باستخدام مراجع منشورة على الإنترنت في بعض الأحيان، وبطرح أسئلة جدلية على الطلاب في أحيان أخرى. كما رصدت ردود أفعال الطلاب حول التحدث إلى روبوت لديه القدرة على التفاعل مع أكثر من مستخدم، بشكل يحاكي فرداً حقيقياً وفي الوقت الفعلي.
في النهاية، تجدر الإشارة إلى أن الذكاء الاصطناعي يتقدم حالياً بوتيرة متسارعة في قطاع التعليم. وعلى قدر الفرص والإمكانات التي يوفرها فإنه يجلب معه تحديات خطيرة، ويفتح مجال التساؤل عن قضايا هامة مثل أهمية التفاعل البشري في العملية التعليمية، وحماية الخصوصية، وضمان الشفافية، ومدى القدرة على التحكم في استخدام التقنيات الجديدة، وإمكانية التلاعب في المناهج والأخلاقيات المرتبطة بالتعليم؛ لذا تبقى الحاجة قائمة إلى إجراء نقاشات جادة حول المدى الذي يمكن أن يصل إليه استخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم العالي، وحدود قدراته الحالية، وكيفية الوصول إلى أقصى استفادة من هذه القدرات.