التحكيم والمحاكم القضائية
اللجوء للمحاكم القضائية من الحقوق الدستورية التي يتمتع بها كل شخص للحفاظ والمطالبة بحقوقه في مواجهة أي طرف ثالث. ولعبت المحاكم، وما زالت، تقوم بدور كبير وأساسي في تحقيق العدالة وتطبيق القانون وارساء سيادة حكم القانون. ومع تطور الزمن وتعقيد المعاملات وتطورها، زادت القضايا اليومية أمام المحاكم ولكن في المقابل لم تزداد المحاكم بنفس القدر وكذلك لم ترتفع نسبة تعيين القضاة لمجابهة سيل القضايا المتدفق أمام المحاكم. وهذا أدى لتأخير الأحكام القضائية، وأصبح الفصل في القضايا يأخذ وقتا طويلا للدرجة التي يفقد فيها بعض أصحاب الحقوق الأمل في وجود العدالة خاصة وأن تأخير العدالة يرقى لدرجة نكران العدالة.
وبسبب التأخير في الفصل في القضايا أمام المحاكم القضائية، اضافة لعدة أسباب أخري، بدأت الحاجة الماسة في البحث عن بدائل أخري مناسبة لتحقيق العدالة وسرعة الفصل في القضايا. ومن أهم البدائل المتوفرة، ان لم نقل أهمها على الاطلاق، نجد “التحكيم” الذي أصبح يتمتع بمكانة واضحة في خط سير تحقيق العدالة.
والتحكيم من الناحية المبدئية، معروف منذ فترة طويلة جدا، ولكن مع زيادة الحاجة له وزيادة اللجوء اليه، قامت الغالبية العظمي من الدول باصدار قوانين محلية بغرض تقنين اللجوء للتحكيم كبديل لتسوية المنازعات لمن يرغب في اختيار هذا الطريق البديل. وأيضا، تم اعتماد العديد من الاتفاقيات الدولية لقبول التحكيم والاعتراف بدوره وبالأحكام الصادرة من هيئات التحكيم أو المحكم الفرد وتنفيذ هذه الأحكام والاعتراف بها وفق الضوابط القانونية والبروتوكولات الدولية.
ونظرا لهذه التطورات الهامة والمتسارعة، في ارساء ثقافة التحكيم وأهمية بل ضرورة اللجوء اليه للفصل في المنازعات، أخذ مسار التحكيم يحتل وضعا بارزا في تسوية المنازعات بشتى أنواعها خاصة المنازعات ذات الصبغة الفنية المحضة نظرا للتعقيدات المرتبطة بها. وتزامنا مع هذه الخطوات، تم انشاء العديد من مراكز التحكيم المحلية والاقليمية والدولية في شتى بقاع العالمـ ولبعضها شأن كبير الآن. وهذه المراكز، من دون شك، لعبت دورا بارزا ومؤثرا في ارساء القواعد القانونبة والمارسات السليمة لترسية وتأصيل مهنة وصناعة التحكيم بهدف تحقيق العدالة الناجزة واعادة الثقة في حكم القانون وارساء دولة القانون.
ومن الواضح للعيان، أن التحكيم لعب دورا كبيرا في الفصل في العديد من القضايا الهامة علي المستويين المحلي والدولي، والأحكام الصادرة من التحكيم أرست قواعد قانونية هامة مما يشكل اضافة للتطور القانوني مع منح العمق القانوني لارساء قواعد العدالة الناجزة. وكل هذا، يقود وبصفة يومية، لزيادة اللجوء للتحكيم للفصل في المنازعات، وهذا بدوره أدى لزيادة الأعمال والمعاملات التجارية في مختلف القطاعات ومختلف أرجاء العالم. والفضل يعود للتحكيم وما يقوم به من مهام هامة وملحوظة للعيان.
ولكن وبالرغم من الدور الهام الذي ظل يقدمه التحكيم، الا ان التحكيم يحتاج للمحاكم في عدة أمور لا بد منها لتكتمل العدالة ويشعر بها الجميع. ومن الضروري أن نفهم، أن القضاء والتحكيم جسمان مكملان لبعضها البعض، ولجودهما مع بعض الأثر البالغ في ترسية قواعد العدالة. ولهذا يحتاج التحكيم للمحاكم في العديد من المهام القانونية الأساسية وذلك نظرا لما يتمتع به القضاء من القوة التنفيذية االحبيرية المباشرة.
ومن ضمن الحالات التي يلجأ فيها التحكيم للقضاء، نجد الطلب من المحاكم باتخاذ العديد من الاجراءات التحفظية الوقتية والأوامر المستعجلة. وهذا نجده، مثلا، عندما تطلب هيئات التحكيم من المحكمة المختصة اصدار الأوامر بالحجز التحفظي علي المنقولات أو العقارات أو الحسابات البنكية أو اصدار الأمر بالمنع من السفر أو تقديم الضمانات وغيره من الأوامر الضرورية العاجلة التي لا بد منها لحفظ الحقوق ولو بصفة مؤقتة لحين الفصل النهائي في النزاع.
أيضا، يستعين التحكيم ويلجأ للمحاكم لتنفيذ القرارات الوقتية أو القرارات النهائية الصادرة من هيئات التحكيم. ووفق قانون الاجراءات فان للمحاكم سلطات كبيرة في كل ما يتعلق بتنفيذ الأحكام وكل ما يرتبط بها. وهذه السلطات الاجرائية القانونية لا تملكها هيئات التحكيم ولذا فان هذه الاجراءات الضرورية تتم عبر المحاكم ووفق القوانين الساربة. وبالطبع، فان تدخل المحاكم في اصدار الأوامر لتنفيذ قرارات التحكيم يمثل دفعة قوية لمسار التحكيم لأنها تضع قراراته في وضع النفيذ الجبري والقضايء عبر المحاكم المختصة.
ووفقا للقانون، فانه يجوز اللجوء لمحكمة التمييز، في حالة طلب الطعن بالنقض وذلك وفقا للحالات المذكورة في قوانين التحكيم، وهي حالات محددة يتدخل فيها القضاء. وهكذا، فان المحاكم القضائية تمثل صمام الأمان للجميع خاصة وأن قرارات التحكيم نهائية ونافذة ما لم يتم الطعن بالنقض فيها أمام محكمة التمييز حيث تصدر قرارها في الطعن. وفقا لاختصاصها، وفي هذا دلالة واضحة على أهمية وأزلية العلاقة بين التحكيم والمحاكم القضائية. وعبر هذه العلاقة تصان العدالة ونجدها تسير بين الناس..